تشتهر معظم مدن الجزائر بكثرة أسواقها خاصة العتيقة منها، التي ظلت لعقود مقصدا للجنسين لما توفره لهما من جميع حاجياتهما الاستهلاكية.
وترتبط عادة الأسواق بالنساء، فهن الزبونات الوفيات اللواتي يفضلن اقتناء حاجيات المنزل بأنفسهن، بل إنه أيضا متنفس لهن من “حيطان المنزل أو صخب الأبناء والزوج” كما تذكر كثير منهن.لكن من الغريب أن نسمع عن سوق “محرمة وممنوعة على المرأة” رغم محلاته الخاصة بالنساء من الملابس والأواني وغيرها.
في مدينة قسنطينة العتيقة الواقعة شرقي الجزائر، كل شيء غريب فيها، تضاريسها وجمالها وحكاياتها ومنازلها وعاداتها، بشكل ميزها عن جميع مدن الجزائر.
في هذه المدينة الساحرة، تمتد الغرابة لتصل إلى سوق “رحبة الجمال”، أكبر وأشهر سوق شعبية في قسنطينة وشرق الجزائر، فهي السوق المفتوحة للرجال والأطفال وحتى القطط، لكنها مغلقة في وجه النساء، لأسباب يقال إنها تاريخية واجتماعية.
أسباب يختلف أهل المدينة بين التأكيد على أنها “حقائق تاريخية واجتماعية” وبين من يربطها بـ”خرافات وأساطير” تتقاذفها الروايات بين عهدي العثمانيين والفرنسيين.سوق الفقراء
تكشف الدراسات التاريخية عن سوق “رحبة الجمال” بأن تاريخه يعود لـ15 قرناً خلت، ولا يزال محافظا على طابعه المعماري القديم، ومنذ ذلك الوقت وهو “الشريان الاقتصادي” لمدينة قسنطينة المشهورة بعدة تسميات أبرزها “مدينة الجسور المعلقة”، و”عاصمة الشرق الجزائري”.
يسميه سكان المدينة بـ”سوق الزوالية” أو “سوق الفقراء”، فهو نموذج للسوق الشعبية التي يباع ويشترى فيها كل شيء، يجد فيها قاصدوه كل ما يبحثون عنه وبعروض مغرية من حيث الأسعار وأي جودة تساعده.أما عن سر تسميته بـ”رحبة الجمال”، فيذكر أهل قسنطينة بأنه كان منذ عدة قرون محطة التقاء القوافل التجارية التي تدخل المدينة ويقصد به “الفضاء التجاري الواسع”، حيث كانت تلك القوافل تربط جمالها وخيولها عند أبواب السوق أو فنادق المدينة.
هناك عشرات المحلات التي تباع فيها ملابس النساء والرجال والأطفال العصرية والتقليدية، والأواني، والذهب والفضة، وصناعة النحاس، ومستلزمات المنازل والبناء والهواتف وغيرها، وهو أيضا “سوق موازية لبيع وشراء مختلف العملات خاصة اليورو والدولار”.
بداخل السوق يوجد أيضا فنادق صغيرة وحمامات بأسعار زهيدة، وبه أيضا واحدا من أقدم مساجد المدينة وهو جامع “سيدي عبدالرحمن القروي”، ويشتهر أيضا بأنه مكان “للانعزال”.كما أنه سوق أيضا للمطاعم الشعبية التي تشتهر ببعض أكلات المدينة التقليدية أشهرها طبق “الحمص” الذي يتم طهيه على الجمر، ويشهد يومياً حركة كبيرة من التاسعة صباحا إلى الرابعة مساء.
7 ساعات يومياً، كفيلة بأن تكشف تمسك سكان مدينة قسنطينة بأقدم سوق في مدينتهم، رغم عدم وجود أحياء سكنية قريبة منه، لكنه مع ذلك يلقى إقبالا كبيرا حتى من خارج المدينة.للرجال فقط
ومنذ أكثر من 3 قرون، لا يزال أهل قسنطينة يحافظون على عُرف توارثوه كما هو، وهو أن سوق “رحبة الجمال” “ممنوعة ومحرمة على المرأة”، لا يمكن لها “التمرد” على ذلك العرف مهما بلغت درجة جرأتها وقوة شخصيتها، فعند أسواره “يتحطم إما غرورها أو رغبتها في دخوله”، هكذا يقول تجار السوق.
ومن المفارقة، أن هناك بعض النسوة من المدينة يمتلكن محلات داخل السوق ورثوها عن آبائهم أو أجدادهم، لكن لم يسبق لهن زيارتها ويجهلن حتى شكلها، والسبب “أسطورة” منع المرأة من دخوله، وليس لهن حل إلا الاعتماد على وكيل أو عامل لتسييرها.للقصة العديد من الروايات، أبرزها تلك التي تقول إن جنود الاحتلال الفرنسي حوّلوا السوق ومحلاته إلى بيوت للدعارة، ما جعل سكان المدينة يمنعون نسائهم وبناتهم من دخول السوق خوفاً على شرفهن.
ورواية أخرى ترجع القصة إلى القرن 18 في فترة حكم صالح باي للمدينة، حيث أمر بجعل السوق والحي المجاور له “مكاناً لمستوطنيه” ليمارسوا فيها تجارتهم خاصة تجارة الدعارة، ومنه حرَّم علماء المدينة على المرأة دخول المنطقة.ولا يزال إلى يومنا هذا دخول المرأة إلى سوق “رحبة الجمال” “أمرا مرفوضاً اجتماعياً”، وإذا ما دخلته متسولة أو امرأة من خارج المدينة تجهل “عُرف السوق” فسرعان ما يتم إبلاغها من تجار السوق بـ”ضرورة خروجها منه”، كل ذلك بسبب سمعته السيئة التي ارتبطت به منذ عهد العثمانيين إلى غاية استقلال الجزائر قبل 58 عاماً.
السوق لا يوفر مختلف السلع والخدمات فقط، بل يمكنك فيه الحديث عما تشاء، وأن تفتح أي موضوع للنقاش، باستثناء موضوع واحد وهو “دخول المرأة”، لأن “الفيتو” ينتظرك عند دخول المدينة قبل السوق، موضوع غير قابل للنقاش أو حتى للتلميح، ويعتبر معظم رجال المدينة تغيير ذلك العُرف “مساساً محرماً بتاريخ قسنطينة”.