أنا محظوظة بما يكفى ليأتى يوم علىّ يختصنى الله فيه بشرف مسؤولية عظيمة وهى نعمة الاستماع من القلب وبالقلب.. الاستماع لسيدات يحملن فى قلوبهن كنوزًا حقيقية لا تدرى الكثيرات منهن بوجودها. سيدات فى منتصف العمر تخيلن أن الأربعين أو الخمسين عاماً من الحياة قد ذهبت مع الريح وذهبن معه، ولا يدركن أن الحياة الحقيقية ربما لا تكون قد بدأت بعد.
استمعت إلى قصص حياة سيدات أو بمعنى أدق إلى قصص جروحهن العميقة، التي اتخذن قراراً لتطهيرها ورعايتها ومداواتها فى تدريبى لهن فى برنامج تطهير الجروح بأمان.ليست تجربة أو تدريبًا عارضًا، إنه- بالنسبة لى – أصبح مشروع حياة، مشروع النصف الثانى من عمرى، مشروع ما بعد الخمسين.لقد كنتُ واحدة ممن جرحت جروحاً عميقة ودخلتُ فى طريق المتاهة مثل نساء كثيرات وكانت الرحلة لمداواة تلك الجروح وفهمها وفهم ما وراءها من أفكار، والبحث داخلى عن نور ينير لى السكة لم يكن هيناً وقد دفعت ثمنه من عمرى وجهدى وطاقتى، فالحياة لا تعلمنا تطوعاً ولا تعطينا دروساً مجانية، لذلك بعد دفع أثمان وفواتير مستحقة وعندما كنتُ مستعدة لمساعدة نفسى والتصديق باستحقاق إسعادها فى المقابل، استطعت البحث خارجى لإيجاد ما يعيننى على الرحلة، اجتهدت فى البحث فوجدتها ومازالت رحلة البحث مستمرة، كما أن الله أرسل لى الهدايا خلال رحلتى فى تطهير الجروح ومداواتها، كانت الهدايا: بشرًا، مواقف ودروسًا وإشارات.الإدراك الأهم الذي أتبناه هو أن الرحلة لا تكتمل ولا يتم الوصول إلى نهايتها بدون صحبة آمنة، فقررت أن تكون صحبتى هى كل من قرر أن يبحث عن النور بداخله وعن الحياة « المُستحَقة» من جديد.وكما قال الشاعر محمود درويش: «ونحن نحب الحياة إن استطعنا إليها سبيلاً». مشروع النصف الثانى من العمر هو أن أبحث عن كل السبل الآمنة التي ترضينى وترضى استحقاقى بالحياة الطيبة، ولكن ليس لى وحدى، ولكن لمن أرادت أن تحب الحياة. ولكن كلمة السر هى أن نحب أنفسنا أولاً وننشئ أو نعيد العلاقة الطيبة مع أنفسنا. من هنا تبدأ قصة البحث عن النسخة الأفضل «جوانا»، وهى أن نعرف كيف نعبر عما بداخلنا، كيف نراه، كيف نسمع صوت قلوبنا وكيف نستمع بقلوبنا إلى الآخرين.سأحكى قليلاً عن « الصحبة الآمنة»- هؤلاء السيدات اللائى قررن فتح قلوبهن للحياة وللكلام معى ليس بغرض البوح والكلام والفضفضة أو لمجرد التخلص من عبء وحمولة الأثقال والشيلة النفسية فحسب، بل جئن حاملات ومجددات النية فى التغيير والتطوير والبحث عن النسخة الأفضل، وهى رحلة طويلة لا تنجز فى يوم وليلة.بداخل كل امرأة صندوق أسود، ربما لا تدرى هى نفسها بوجوده ولا تعرف كيف تفتش بداخله، ولكى تدرك مكانه وما المختبئ بداخله، ولكى تعرف كيف تقرأ إشاراته، وما المقصود منها وتحاول إيجاد الوجهة والطريق للخروج من النفق، فهذا يتطلب نية حقيقية وجهدًا ووقتًا وتعلمًا وجهادًا واستعدادًا، وقبولاً، ومناعة نفسية وكسر مفاهيم مغلوطة وإعادة تفكير، مشوار يحتاج إلى مرونة أفكار وتدبر وتهيئة وإزاحة وتخلى وتوسيع مكان لما هو آت من خير واستحقاق.ولكن قبل ذلك يحتاج إلى رحمة!!الرحمة الأولى التي سأتحدث عنها اليوم هى رحمة الاستماع بالقلب للآخرين. إنها رحمة الوعى – التي لا يتحلى بها كثير من الناس – باختلاف أسبابهم ونواياهم.كان القاسم المشترك بين حكايات السيدات عن قصص جروحهن وآلامهن فى الحياة- خاصة وهن فى منتصف العمر هى أنهن لم يتمكن من التعبير الآمن عما بداخلهن، وأن الدوائر المحيطة والتي غالباً قد تكون من داخل الأسرة والعائلة – الذين يحاولون دعم السيدة المجروحة التي تعرضت لخيانة زوجها مثلاً وتصر على الطلاق أو أنها لا تستطيع التعامل معه كما كانت وأنها لا تطيقه حتى وإن اعتذر لها، وهذا ما بدأت به إحدى السيدات الحاضرات فى البرنامج التدريبى قائلة: استمررت فى الحياة لأجل أولادى، ومر العمر على وعلى قصة وجعى أكثر من 17 سنة، لكننى فوجئت منذ سنوات قليلة مضت ومضى قبلها 48 سنة من عمرى، بأن جرحى لم يشف بعد، ولم يتعاف، بل حلت عليه آثار مؤلمة أخرى فتحت الجروح وجددت مساحات الألم التي اتسعت وانتشرت فى رقع مختلفة من مشاعرى ودوائر أفكارى، منها ندم عن قرارات لم أتخذها، وعن أسلوب حياة لم أفرضه، وعن شخصية قررت تقمصها تحت عباءة «بنات الأصول والزوجة الصالحة» وقبول أفكار لآخرين – بالنسبة لى الآن أفكار هادمة ولم تكن داعمة بقدر ما كانت مؤذية ومدمرة تحت اسم الحب وفعل الخير، الآن وبعد أن «اِتسرسب» العمر منى شعرت أن الجرح لم يشف، بل ضرب فى مناطق نفسية بداخلى لم أكن واعية لها من قبل.الآن أنا فى وضع «الحوسة» لأننى بالنسبة للآخرين ولكل من حولى، أتكلم عن ذكريات وملفات تم إغلاقها ونسيانها منذ زمن ولا يصح فتحها فحسب، بل إنه شر وظلم وافتراء منى لمجرد التفكير فيها أو الإشارة عما سببته من جروح أو الإفصاح بأن الجروح مازالت موجودة، بل تؤلمنى أكثر.الآن لم يعد مسموحًا لى أن أتحدث أو أشير إلى هذا الألم حتى مع أقرب الناس لي.. وتقول السيدة: «أنا لا أريد أن أشكو ولكن أريد البحث عن طريق ينجينى من ذلك الوجع الذي فوجئت أنا شخصياً بأنه مازال موجوداً وينهش بداخلى، رغم أننى أريد أن أعيش ما تبقى من عمرى فى سلام وبدون أوجاع وجروح إضافية».ما ذكرته هذه السيدة- هى مجرد قصة عابرة- تتشابه وتتكرر، ولكن بسيناريوهات مختلفة، لكنها هى حجر الزاوية فى الخطأ الإنسانى الذي نرتكبه جميعاً فى حق بعضنا البعض، فليس كل شخص قادرًا على أن يذهب إلى مختص نفسى أو إلى معالج أمين، ولكن ما نملكه تجاه الدوائر القريبة من أسرتنا وأحبائنا وأصدقائنا ولمن يطلب منا الدعم هو أن نفهم معنى الاستماع بالقلب ومن القلب.للأسف– جميعنا يقع أحياناً فى فخ – الاستماع للآخر على طريقة المهمة أو الإجراء.الاستماع بالقلب – لا بالأذن قد ينقذ ويحيى ويطيب جروحًا كثيرة دون أن ندرى – فالاستماع بالقلب الواعى عدوى تلهم الآخر برسالة أنه محبوب ومهم، الاستماع بالقلب يحتاج إلى مهارة الوعى والتركيز فى كل كلمة – ليس بهدف الرد عليها، ولكن بهدف نبيل أن أضع نفسى فى مكان شعوره، أن أتفهم ذلك الشعور، أن أحاول بوعى فهم مصدر وأسباب ما وراء ذلك الشعور، فلنؤجل قليلاً نوايانا الطيبة فى إسداء النصيحة أو التعاطف الأجوف أو الاستماع إلى قصة الجرح بغرض أداء الواجب وإثبات شهامة الدعم.كم يفرق كثيراً أن نستمع بهدف الوعى والفهم حتى نتمكن من دعم المجروح من أحبائنا وبين أن نستمع على طريقة «سأنصت لأعطيك كبسولة الحل».قالت لى سيدة أخرى أثناء ذلك التدريب تعليقاً على موضوعنا مداواة جروحنا النفسية وتطهيرها متحدثة عن وجعها لفقد ابنتها فى حادث: «قطعت علاقتى بصديقة كنت أظن أنها مقربة لى لمدة سنوات، لا قطيعة الكراهية ولكن قطيعة الهروب منها لأنها بعد فترة قصيرة جداً من وفاة ابنتى كانت تتكلم معى كلما رأتنى أو تحدثت إلى عن قوة الإرادة وضرورة الصمود والإيمان بالقضاء وبالقدر، وكنت أقول لها: أنا أعرف هذا الكلام جيداً ولا أريد سماعه لأنه يؤلمنى، وحاولت بشتى الطرق أن أعبر لها عن الأذى النفسى الذي أشعر به كلما سمعت صوت دعمها لى بهذه الطريقة، مضاف إليها شعورى بالذنب تجاهها لأننى أعرف نواياها الطيبة ولكننى لا أطيق صوت ما تقوله، لكنها لم تفهم، ولذلك انسحبت من حياتها لمدة سنتين حتى استطعت استرداد بعض طاقتى للحياة ولاحتمال البشر مرة أخرى.ما قالته هذه السيدة يتطابق تماماً مع ما عشته فى فقد كبير حدث لى منذ عامين، وأتذكر وقتها ومنذ الأيام الأولى كانت إحدى قريباتى يمارسن معى نفس المنهج فى المواساة، ولكن بنصائح مباشرة عن قوة الإرادة، وهو نفس الوقت الذي كنت متعبة فيه لدرجة أننى غير قادرة على إخراج مشاعرى وحزنى ولو بالبكاء.. فكنت أتعجب من جملة النصح فى الأساس، ولكن اعتباراً لمكانتها وسنها وعلاقتنا، كنت أتحمل الكلام لوقت لم أستطع فيه التحمل، وكل ما قلته لها: «أعرف أنكِ مهمومة بى وتحاولين المساعدة، ولكن طريقتك تؤلمنى لأنها بمثابة « المساج» على منطقة مجروحة ومفتوحة. ورجوتها بألا تفعل ذلك معى ولا تغضب منى». فى الحقيقة هى لم تكرر ولم تفعل ذلك مجدداً ولكنها غضبت منى وعندما واتتها الفرصة، سخرت من جملتى فى سياق عابر.نحن – دون أن ندرى – نؤذى بعضنا البعض وبحسن نية، لذلك عينا أن ندرك بعض مهارات الرحمة فى التواصل مع بعضنا البعض، فالحياة خشنة فى كثير من أمورها وعلينا أن نضفى عليها بعض الرحمة بقليل من الوعى والتدريب.استمعوا إلى المقربين والأحباء بقلوب واعية، ولا تقربوا جروح الآخرين إلا بفهم منهم وأول الفهم سؤال بنية طيبة ومن القلب: كيف لى أن أساعد؟ولنا فى البحث عن النسخة الأفضل «جوانا» حكايات أخرى. نقلًا من مجلة صباح الخير